فصل: تفسير الآيات (277- 281):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (277- 281):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} قال عطاء وعكرمة: نزلت هذه الآية في العبّاس بن عبد المطلب وعثمان بن عفّان وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر: لا يبقى ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقّكما كلّه فهذا لكما أن تأخذا النصف وتؤخّرا النصف وأضعف لكما فقبلا، فلمّا جاء الرجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما وأنزل الله هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.
وقال السدي: نزلت في العبّاس عبد المطلب وخالد بن الوليد وكانا شريكان في الجاهليّة يسلّفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وإنّ كلّ ربا من ربا الجاهليّة موضوع وأوّل الربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب، وكلّ دم من دم الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحرث ابن عبد المطلب كان مُرضعاً في بني ليث قتله هذيل».
وقال مقاتلان: أنزلت في أربعة أخوة: من ثقيف مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وكانوا يداينون المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانوا يربون، فلما ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم على الطائف وصالح ثقيفاً أسلم هولاء الأربعة الأخوة وطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقالت بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله ورسوله عن المؤمنين، فما يجعلنا أشقى الناس بهذا، فاختصموا إلى عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكّة وقال: «أبعثك على أهل الله» فكتب عتّاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقصّة الفريقين وكان ذلك مالاً عظيماً فأنزل الله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} وذر لفظ تهديد، وقرأ الحسن مابقى بالألف وهي لغة طي، ويقول للحجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة.
قال الشاعر منهم:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا ** على الأرض قيسي يسوق الأباعرا

{إِن كُنْتُمْ} إذا كنتم {مُّؤْمِنِينَ} كقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ} [آل عمران: 139] {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} فإنّ لم تذروا ما بقي من الربا {فَأْذَنُواْ} قرأ الأعمش وعاصم وحمزة رواية أبي بكر {فَأْذَنُواْ} ممدوداً على وزن آمنوا وقرأ الباقون {فَأْذَنُواْ} مقصوراً مفتوح الذال، وهي قرأة علي وأختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
فمن قصر معناه: فاعلموا أنتم واسمعوا، يقال: أذن الشيء يأذن أذناً وأذانة إذا سمعه وعلمه. قال الله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2]. ومن مدّ معناه: فاعلموا غيركم. قال الله تعالى: {قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} [فصلت: 47].
وأصل الكلمة من الأذن أي أقعوه في الأذان.
{بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لا تأكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وروى الوالبي عنه قال: مَنْ كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه، فحقّ على إمام المسلمين أن يستتيبه فإنّ نزع وإلاّ ضرب عنقه.
وقال أهل المعاني: حرب الله النار وحرب رسوله السيف {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ} بطلب الزيادة {وَلاَ تُظْلَمُونَ} النقصان عن رأس المال. وروى آبان والمفضّل عن عاصم بضم التاء الأولى وفتح الثانية. قال أهل المعاني أنّها شرط التوبة لأنّهم أن لم يتوبوا كفروا بردّ حكم الله واستحلال ما حرّم الله فيصير مالهم فيأً للمسلمين. فلما نزلت هذه الآيات قالت بنو عمرو [بن عمير لبني المغيرة:] بل نتوب إلى الله فإنّه ليس لنا يدان بحرب الله وحرب رسوله فرضوا برأس المال وسلّموا لأمر الله فشكى بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن ندرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} رفع الكلام بإسم كان ولم يأتِ لها بخبر وذلك جائز في النكرة. يقول العرب: إنّ كان رجلٌ صالح فأكرمه، وقيل: كان لمعنى وقع الحدث وحينئذ لا يحتاج إلى الخبر.
وقرأ أُبي وابن مسعود وابن عباس: إنّ كان ذا عسرة على إضمار الإسم وان الغريم أو المطلوب ذا عسرة. وقرأ آبان بن عثمان: ومن كان ذا عسرة لهذه الغلّة. وقرأ الأّعمش: وإن كان معسر وهو دليل قراءة العامّة.
والعسرة: الفقر والضيق والشدّة. وقرأ أبو جعفر: عسرة بضم السين، وهما لغتان.
{فَنَظِرَةٌ} أمر في صيغة الخبر، والفاء فيه لجواب الشرط تقديره: فعليه نظرة، أي قال: واجب نظره بالنصب على معنى فلينظر نظرة لكان صواباً كقوله فضرب الرقاب، والنظرة: الإنظار.
وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة: فناظرة بكسر الضاد ورفع الراء والهاء أي منتظرة. وقرأ عطاء بن أبي رباح: فنظرة ساكنة الضاء وهي مصدر يجوز أن يكون من النظر والانتظار جميعاً.
{إلى مَيْسَرَةٍ} قرأ عطاء وشيبة ونافع وحميد بن محيص: {مَيْسَرَةٍ} بضم السين والتنوين. وقرأ عمر وعلي وأبو رجاء والحسن وقتادة وعبد الله بن مسلم وأبو جعفر وأبن كثير وابن عامر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: {مَيْسَرَةٍ} بالتنوين وفتح السين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّها اللغة السائرة. وقرأ مجاهد وأبو سراح الهذلي: {ميسرة} بضم السين مضافاً هو مثله روى زيد عن يعقوب، وروى الأعمش عن عاصم عن زرّ عن عبد الله أنّه كان يقرأها: فناظروه إلى ميسورة، وكلّها لغات معناها اليسار والغنى والسعة.
{وَأَن تَصَدَّقُواْ} رؤوس أموالكم على المعسر فلا تطالبونه بها {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقرأ عاصم: تصدّقوا بتخفيف الصاد. الباقون بتشديده.
ذكر حكم الآية:
أمر الله تعالى بانظار المعسر فمتى ما أعسر الرجل وتبيّن أعساره، فلا سبيل لرب المال إلى مطالبته بماله إلى أن يظهر يساره، فإذا ظهر يساره كان عليه توفير الحق إلى ربّ المال وعلم أنّ الحقوق تخلف وكلّ حق لزم الإنسان عوضاً عن مال حصل في يده مثل قرض أو ابتياع سلعة، فإذا ادّعى الإعسار لزمته البيّنة على الإعسار؛ لأنّ الأصل فيه استغناؤه بحصول ما صار في يده، وكلّ حق لزمه من غير حصول مال في يده كالمهر والضمان، فإذا أدّعى الإعسار لزم ربّ المال أمامه البيّنة على كونه موسراً لأن الأصل في الناس الفقر، وإذا لم يعلم له حالة استغناء كان الحكم فيه البقاء على أصل ما كان عليه إلى أن يتبيّن يساره.
وقال الحسن: إذا قال: أنا معدم، فالقول قوله مع يمينه وعلى غرامه إظهار ماله ببيّنة أو عيان.
وكان أبو حنيفة يرى أن يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه في السرّ، فإنّ تبيّن أنّه معسر خلّى عنه.
ودليل مَنْ قال: لا يحبس، حديث أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في ثمار فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا ما وجدتم ليس لكم إلاّ ذلك».
وكان أبو هريرة على قضاء المدينة فأتاه رجل بغريم فقال: أريد أن تحبسه.
قال: هل تعلم له عين مال نأخذه منه فنعطيك؟
قال: لا، قال: فهل تعلم له أصل مال فنبيعه ونعطيك؟
قال: لا، قال: فما تريد، قال: أريد أن تحبسه، قال: لكنّي ادعه يطلب لك ولنفسه وعياله فإذا أيسر لزمه قضاء الدين.
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مشى إلى غريمه بحقّه صلت عليه دواب الأرض ونون الماء وكتب الله عزّ وجلّ بكلّ خطوة شجرة يغرس له في الجنّة وذنباً يغفر له فإنّ لم يفعل ومطل فهو متعدّ».
أبو الزياد الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظلم مطل الغني فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع».
في فضل إنظار المعسر:
زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أنظر معسراً أو وضع له، أظلّه الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه»، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أحب أن يستجاب دعوته ويكشف كربته فلييسّر على المعسر».
ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: أتى الله عزّ وجلّ بعبده يوم القيامة فقال أي ربّ ما عملت لك خيراً قط أُريدك به إلاّ إنّك رزقتني مالاً فكنت أتوسّع على المعسر. وأنظر المعسر، فيقول الله عزّ وجلّ: أنا أحق بذلك منك فتجاوزوا عن عبدي.
قال: فقال أبو مسعود الانصاري: فاشهد على رسول الله أنّه سمعه منه.
الأعمش عن أبي داود عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة» ثم قال بعد ذلك: «مَنْ أنظر معسراً كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة» قال: فقلت: يارسول الله قلت: مَنْ أنظر معسراً فله بكلّ يوم صدقة، ثم قلت: من أنظر معسراً كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة.
قال: «إن قولي بكل يوم صدقة قبل الأجل، وقولي بكل يوم مثل الذي أنظره صدقة بعد الأجل» وعن سعيد بن أبي سعيد عن أخيه عن أبيه: أن جابر بن عبد الله خرج إلى غريم له يتقاضاه فقال هاهنا حقّي، فقالوا: لا فتنحّى فلم يلبث أن خرج مستحيياً منه فقال: ما حملك على أن تحبسني حقّي وتغيّب وجهك عنّي؟
قال: العسرة، قال: قال الله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}، فأخرج كتابه فمحاه.
فصل في الدَّين:
جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ مع الدائن حتّى يقضي دينه مالم يكن فيما يكره الله عزّ وجلّ» قال: فكان عبد الله بن جعفر يقول لخازنه: أذهب فخذ لنا بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلاّ والله عزّ وجلّ معي منذ سمعت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عطاء بن يسّار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أدان ديناً وهو ينوي أن لا يؤدّيه فهو سارق».
عثمان بن عبد الله عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: إنّ رجلاً أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه، فقال: «صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه ديناً» قال أبو قتادة: فأنا أكفل به، قال: «بالوفاء»، قال بالوفاء فصلّى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهماً أو سبعة عشر درهما.
وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بالله من الكفر والدين» فقال رجل: يارسول الله يعدل الدين بالكفر؟ قال: «نعم».
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدين راية الله في الأرض، فإذا أراد أن يذلّ عبده ابتلاه بالدين وجعله في عنقه» وعن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من خطيئة أعظم عند الله بعد الكبائر من أن يموت الرجل وعليه أموال الناس ديناً في عنقه لا يوجد لها قضاء».
يزيد بن أبي خالد عن ابن أيوب عن أنس بن مالك: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدين فإنّه هم بالليل ومذلّة بالنهار».
{واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} قرأ أبو بحرية وابو عمرو وسلام ويعقوب: {تُرْجَعُونَ} بفتح التاء واعتبروا بقراءة أُبيّ {فاتقوا يوماً تصيرون فيه إلى الله}. وقرأ الآخرون بضمّ التاء إعتباراً بقراءة عبد الله. {واتقوا يوماً تُردّون فيه إلى الله}.
{ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} قال: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبرائيل: ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة.
سفيان عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل في تفصيل آخر ما نزل من القرآن:
قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليتني أعلم متّى يكون ذلك» فأنزل الله تعالى سورة النصر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة يسكت من التكبير والقراءة فيقول فيها: «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» فقيل: إنّك لم تكن تقوله يا رسول الله قبل هذا، قال: «إنّها نفسي نعيت إلي» ثمّ بكى بكاء شديداً فقيل: يا رسول الله أو تبكي من الموت وقد عفا الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، قال: «فأين هول المطلع فأين ضيق القبر وظلمة اللحد فأين القيامة والأهوال» فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] إلى آخرها فسمّى آية الصيف. ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية فعاش بعدها أحداً وثمانين يوماً، ثم نزلت عليه آيات الربا، ثم نزلت بعدها {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} وهي آخر آية نزلت من السماء، فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوماً.
قال ابن جريج: تسع ليال. سعيد بن جبير ومقاتل: سبع ليال ثم مات يوم الأثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل حين زاغت الشمس سنة أحدى عشرة من الهجرة وأحدى من مُلك أردشير شيرون بن أبرويز بن هرمز بن نوشروان.

.تفسير الآية رقم (282):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
{ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم} قال ابن عباس: لمّا حرّم الله الربا، أباح السلم، فقال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم} أي داين بعضكم بعضاً، والدين ما كان مؤجّلاً والعين ما كان حاضراً، يقال: دان فلاناً يدينه، إذا أعطاه الدين فهو دائن، والمعطا مدين ومديون. قوله: {إِذَا تَدَايَنتُم} يدخل فيه الدين والنسيئة والسلم وما كان مؤجّلاً من الحقوق.
فإنّما قال: {بِدَيْنٍ}: والمداينة لا تكون إلاّ بدين لأنّ المداينة قد تكون مجازاة وتكون معاطاة فأبان ذلك وقيّده بقوله: {بِدَيْنٍ}.
وقيل: هو بمعنى التأكيد كقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقوله: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30].
{إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي وقت معلوم {فاكتبوه} أي اكتبوا الذي تداينتم به بيعاً كان أو قرضاً لئلاّ يقع فيه جحود ولا نسيان ولا تدافع.
واختلفوا في هذا الكتابة، هل هي واجبة أم لا؟
فقال بعضهم: فرض واجب، قال ابن جريج: مَنْ أدان فليكتب، ومَنْ باع فليُشهِد. وهذا القول اختيار محمد بن جرير الطبري، يدلّ عليه ما روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يدعون الله فلا يُستجاب لهم: رجل كانت عنده امرأة سيئة الخلق فلم يطلّقها. ورجل كان له دين فلم يشهد، ورجل أعطى سفيهاً مالاً، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]».
قال قوم: هو أمر استحباب وتخيير فإن كتب فحسن وإن ترك فلا بأس.
كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} [المائدة: 2]. وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10]. هو اختيار الفراء.
وقال آخرون: كان كتاب الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وهو قول الشعبي.
ثم بيّن كيفيّة الكتابة فقال عزّ مَنْ قائل: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} وقرأ الحسن وليكتب بكسر اللام، وهذه اللام، لام الأمر ولا يؤمر بها غير الغائب، وهي إذا كانت مفردة فليس فيها إلاّ الحركة، فإذا كانت قبلها واو أو فاء أو ثم، فأكثر العرب على تسكينها طلباً للخفّة ومنهم مَنْ يكسرها على الأصل.
ومعنى الآية: وليكتب كتاب الدين بيع البائع والمشتري والطالب والمطلوب كاتب بالعدل أي بالحق والإنصاف فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ولا يقدّم الأجل ولا يؤخّره ولا يكتب به شيئاً يبطل به حقّاً لأحدهما لا يعلمه هو.
{وَلاَ يَأْبَ} ولا يمتنع {كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ} وذلك إنّ الكتّاب كانوا قليلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد، فقال مجاهد والربيع: واجب على الكاتب أن يكتب إذ أمر.
وقال الحسن: ذلك في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإذا كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره.
وقال الضحاك: كانت هذه عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}. السدي: هو واجب عليه في حال فراغه.
{وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق}. المديون والمطلوب يقرّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه، والإملال والاملاء لغتان فصيحتان جاء بهما القرآن.
قال الله تعالى: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5].
أصل الإملال: إعادة الشيء مرّة بعد مرّة والإلحاح عليه. قال الشاعر:
ألاّ يا ديار الحيّ بالسبعان ** أملّ عليها بالبلى الملوان

ثم خوّفه فقال: {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً}. أي لا ينقص من الحقّ الذي عليه شيئاً، يقال: بخسه حقّه وبخسه إذا أنقصه ونظائرها في القرآن كثيرة.
{فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق}. يعني وإن كان المطلوب الذي عليه المال {سَفِيهاً}. جاهلاً بالمال. قاله مجاهد، وقال الضحاك والسدي: طفلاً صغيراً {أَوْ ضَعِيفاً}. أو شيخاً كبيراً. السدي وابن زيد: يعني عاجزاً أحمق {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ}. لخرس أو عيّ أو غيبة أو عجمة أو زمانةِ أو حبس لا يمكنه حضور الكتاب أو جهل ماله عليه {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ}. أي قيّمه ووارثه.
ابن عبّاس والربيع ومقاتل: يعني فليملل وليّ الحق وصاحب الدين لأنّه أعلم بدينه {بالعدل} بالصدق والحق والإنصاف {واستشهدوا}. هذا السين للسؤال والطلب {شَهِيدَيْنِ}. شاهدين {مِّن رِّجَالِكُمْ}. يعني الأحرار البالغين دون العبيد والصبيان ودون أحرار الكفّار. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وسفيان وأكثر الفقهاء.
وأجاز شريح وابن سيرين بشهادة العبد وهو قول أنس بن مالك. وأجاز بعضهم شهادتهم في الشيء التافه. {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ}. يعني فإنّ لم يكن الشاهدان رجلين {فَرَجُلٌ وامرأتان}. أو فليشهد رجل وامرتان.
وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال، واختلفوا في غير الأموال. وكان مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأحمد لا يجيزونها إلاّ في الأموال. وكان أبو حنيفة وسفيان وأصحابهما يجيزون شهادتين مع الرجل في كلّ شيء ما عدا الحدود والقصاص. {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء}. يعني مَنْ كان مرضيّاً في ديانته وأمانته وكفائته.
قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: مَنْ أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً فأجبناه عليه ومَنْ أظهر لنا شرّاً ظننا به شرّاً وأبغضناه عليه، وإذا حمد الرجل جاره وقرائبه ورفيقه فلا تشكّوا في صلاحه.
وقال إبراهيم النخعي: العدل: مَنْ لم يظهر منه ريبة. وقال الشعبي: العدل: مَنْ لم يطعن عليه في بطن ولا فرج.
وقال الحسن: هو مَنْ لم يعلم له خزية. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرّب عليه شهادة زور ولا التابع مع أهل البيت يعني الخادم لهم ولا الظنين في ولاء ولا قرابة».
وجملة القول فيمن تقبل شهادته: أن تجتمع فيه عشر خصال: يكون حرّاً بالغاً مسلماً عدلاً عالماً بما يشهد به ولا يجز بشهادته إلى نفسه منفعة ولا يدفع عن نفسه مضرّة ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ولا يترك المروءة ولا يكون عنده لين ولا يشهد عليه عبده، فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال كان مقبول القول جائز الشهادة.
وتقبل شهادة النساء على الإنفراد لا رجل معهن في أربع مواضع: عيوب النساء وهو ما يكون عيباً في موضع هي عورة منها في الحرّة في جميع بدنها إلاّ وجهها وكفّيها، ومن الأمة مابين سرّتها إلى ركبتها وفي الرضاع، وفي الولادة، وفي الاستهلال.
ولا خلاف في ذلك كلّه إلاّ في الرضاع. وان أبا حنيفة ذهب إلى أنّ شهادة النساء على الإنفراد لا تقبل فيه حتّى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.
وأمّا صفة الشهادة فروى طاووس عن ابن عباس قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: «ترى الشمس»؟
قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع» وعن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكرموا الشهود فإنّ الله عزّ وجلّ يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم».
خارجة بن نور عن عبد الرحمن بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حبس ذِكْرُ حَقَ بعدما تقبض مافيه ثلاثا فعليه قيراط من الأثم».
{أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}. قرأ الأعمش وحمزة: {أن} بكسر الألف {فتذكر} رفعاً، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع {تضل} جزم للجزاء إلاّ أنّه لا يتبيّن في التضعيف {فتذكّر} رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ.
وقرأت العامّة بنصب الألف، فالفاء على الإتصال بالكلام الأوّل وموضع {أن} نصب بنزع حرف الصفة يعني لأنّ، و{تضل} محلّه نصب بأن {فتذكّر} مسوّق عليه. ومعنى الآية: فرجل وامرأتان كي تذكّر إحداهما الاخرى إنّ ضلّت.
وهذا من المقدّم والمؤخّر، كقولك: إنّه ليعجبني أن يسأل فيعطى، يعني: يعجبني أن تعطي السائل إذا سأل؛ لأن العطاء تعجّب لا السؤال. قال الله: {ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [القصص: 47] الآية.
ومعناه: لولا أن يقولوا إذا أصابتهم مصيبة: هلاّ أرسلت إلينا رسولاً.
ومعنى قوله: {أن تضلّ}: أي تنسى، كقوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52]. وقوله: {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] و{حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة فَسِيرُواْ}
[النحل: 36] وذهاب قول العرب: ضلّ الماء في اللبن، وقال الله: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] وقرأ عاصم الجحدري: أن تضلّ أحداهما بضمّ التاء وفتح الضاد على المجهول، وقرأ زيد بن أسلم: فتذكّر من المذاكرة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأبو حاتم وقتيبة: فتذكر خفيفه، وقرأ الباقون مشدداً.
وذكّر وأذكر بمعنى واحد كما يقال: نزّل وأنزل وكرّمَ وأكرم، وهما معها الذكر الذي هو ضد النسيان قال الشاعر:
تذكرنيه الشمس عند طلوعها ** وتعرض ذكراه إذا غربها أفل

قال أبو عبيد: حُدثت عن سفيان بن عينية أنّه قال: هو من الذكر، يعني أنّها إذا شهدت مع أُخرى صارت شهادتهما كشهادة الذَكَر.
قلت: هذا القول لا يعجبني لأنّه معطوف على النسيان والله أعلم.
{وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ}. قال بعضهم: هذا في محمل الشهادة وهو أمر إيجاب.
قال قتادة والربيع: كان الرجل يطوف في الحيّ العظيم فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتّبعه أحد منهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الشعبي: هو مخيّر في تحمّل الشهادة إذا وجد غيره، فإن شاء شهد وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره فترك إلاّ ما فرض عليه. وقال بعضهم: هذا أمر ندب وهو مخيّر في جميع الأحوال إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد. وهو قول عطاء وعطيّة.
وقال أبو بحريّة: قلت للحسن: أُدعى إلى الشهادة وأنا كاره، قال: فلا تجب ولا تشهد إن شئت. وقال مغيرة: قلت لإبراهيم: إنّي أُدعى إلى الشهادة وإنّي أخاف أن أنسى، قال: فلا تشهد أن تحب.
وقال بعضهم: هذا في إقامة الشهادة وأدائها، ومعنى الآية: ولايأب الشهداء إذا مادعوا لإقامة الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك. وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي، وروى سفيان عن جابر عن عامر قال الشاهد بالخيار مالم يشهد. وقال الحسن والسدي هذه الآية في الأمرين جميعاً في التحمّل والاقامة إذا كان فارغاً.
{وَلاَ تسأموا}. ولا تملّوا يقال: سئمت أسأم سأماً وسأمة، قال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ** ثمانين حولاً لا أباً لك يسأم

وقال لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ** وسؤال هذا الناس كيف لبيد

وأن في محلّ النصب من وجهين: إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً وأُوقعت السآمة عليه، تقديره: ولا تسأموا كتابته، وإن شئت نصبت بنزع حروف الصفة، تقديره: ولا تسأموا من أن تكتبوه، والهاء راجع إلى الحق.
وقرأ السلمي: ولا يسأموا بالياء.
{صَغِيراً}. كان الحقّ {أَو كَبِيراً}. قليلاً كان المال أو كثيراً، وانتصاب الصغير والكبير من وجهين: أحدهما على الحال والقطع من الهاء، والثاني أن تجعله خبراً لكان وأضمر، يعني: ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً كان الحق أو كبيراً.
{إلى أَجَلِهِ}. إلى محلّ الحق {ذَلِكُمْ}.
الكتاب {أَقْسَطُ}. أعدل {عِندَ الله}. لأنّه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه {وَأَقْومُ}. وأصوب {لِلشَّهَادَةِ وأدنى}. وأحرى وأقرب إلى {أَلاَّ ترتابوا}. تشكّوا في الشهادة ومبلغ الحق والأجل إذا كان مكتوباً، نظير قوله: {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ} [المائدة: 108] وهو أفعل من الدنو، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً}. قرأها عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم، مجازه: إلاّ أن تكون التجارة تجارة، والمبايعة تجارة. وأنشد الفراء:
لله قومي أي قوم بحرة ** إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا

أي إذا كان اليوم يوماً. وأنشد أيضاً:
أعينيّ هل تبكيان عفاقاً ** إذا كان طعناً بينهم وعناقاً

أراد إذا كان الأمر.
وقرأ الباقون بالرفع على وجهين: أحدهما: أن يكون معنى الكون الوقوع، أراد: إلاّ أن تقع تجارة، وحينئذ لا خبر له.
والثاني: أن يجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل، وهو قوله تعالى: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} تقديره: إلاّ أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم، ومعنى الآية: إلاّ أن تكون تجارة حاضرة يداً بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل ولا نسيئة.
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}. يعني التجارة {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. قال الضحاك: هو عزم من الله عزّ وجلّ، والاشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقده ونسأه ولو على باقة بقل وهو أختيار محمد بن جرير.
وقال أبو سعيد الخدري: الأمر فيه إلى الامانة. قال الله فإن أمن بعضكم بعضاً. وقال الآخرون: هو أمر ندب إن شاء أشهد وإن لم يشاء لم يشهد ثم قال: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}. هو نهي الغائب، وأصله يُضارر فأُدغمت الراء في الراء ونصبت لحق التضعيف لإجتماع الساكنين، والفتح أخفّ الحركات فحركت إليه.
وأما تفسير الآية، فأجراها بعضهم على الفعل المعروف، وقال: أصله يضارر بكسر الراء وجعل الفاعل الكاتب والشهيد، معناه: ولا يضار كاتب فيكتب مالم يملل عليه يزيد أو ينقص أو يُحرّف، ولا شهيد فيشهد مالم يشهد عليه أو يمتنع من إقامة الشهادة، وهذا قول طاووس والحسن وقتادة وابن زيد. وأجراه آخرون على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين وقالوا: أصله لا يضار.
ومعنى الآية: هو أن الرجل يدعوا الكاتب أو الشهيد وهما على حاجة مهمّة فيقولان: إنا مشغولان فاطلب غيرنا، فيقول الذي يدعوه: إن الله أمر كما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ويلحّ عليهما ويشغلهما عن حاجتهما فنهى الله عزّ وجلّ عن مُضارتهما وأمر أن يطالب غيرهما.
وقال الربيع بن أنس: لما نزلت هذه الآية {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ} {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ}. كان أحدهما يجيء إلى الكاتب فيقول له: أكتب، فيقول: إنّي مشغول، أو لي حاجة فانطلق إلى غيري، فيُلزمه ويقول: إنّك قد أُمرت بالكتابة، فلا يدعه فيضاره بذلك وهو يجد غيره. وكذلك يفعل مع الشاهد، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}.
ودليل هذا التأويل قراءة عمر وأُبيّ وابن مسعود ومجاهد: ولا يضارر كاتب ولا شهيد باظهار التضعيف على وجه مالم يمنع ولا يضار.
وقرأ أبو جعفر: ولا يضار، مجزوماً مخفّفاً القى راء واحدة اصلاً، وقرأ الحسن ولا يضارّ بكسر الراء مشدّداً.
{وَإِن تَفْعَلُواْ}. ما نهيتكم عنه من الضراء {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}. خروج عن الأمر {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.